فضاء حر

كل طغاة العالم يحسدون صالح

 

بعد أقل من شهر على اندلاع الثورة التونسية، وفي ليلة دهماء وجد الرئيس التونسي ابن علي نفسه هائماً في سماء البحر الأبيض المتوسط بعد أن رفض أكثر من برج مراقبة طيران أوروبي السماح لطائرته الرئاسية بالهبوط… في إشارة لرفض سياسي أوروبي باستقباله.

فوجئ هذا الرئيس الهارب بهذا الموقف الرسمي الأوروبي بعد ساعات فقط من اضطراره للفرار والنجاة بجلده من بلده؛ جراء ما هاله من تدفقات شعبية إلى شوارع وميادين المدن الرئيسة، ومن إصرار شعبي على إسقاطه من كرسي الحكم، الأمر الذي لم يترك له من خيار غير الرحيل السريع والمذل، مما أفقده عامل الوقت في أن يلملم حاجاته ومجوهراته وهداياه النفيسة التي حصل عليها من ملوك ورؤساء العالم خلال فترة رئاسته التي استمرت لحوالي 25 عام، إذ ترك كل متعلقاته مع كم من العملات الصعبة في قبو قصره… نافذاً بجلده مردداً وبصوت خافت ومرتجف "ياروح ما بعدك روح" هو الأقرب لصوت مرتعش جراء صقيع الشتاء.

خلافاً لتصرفات ابن علي هذا الذي لم يكن له في الجيش، أو في أجهزة الأمن أبنٌ أو أخ أو أقرباء يضمنون له البقاء في السلطة ولو وقتاً يستطيع من خلاله تجميع أغراضه وتحويشة عمره. وجدنا الرئيس السابق علي عبد الله صالح في وضع مغاير لإبن علي تماماً إذ ظل في قصره، وهيلمان عرشه حوالي عام كامل على اندلاع ثورة فبراير2011م، استطاع خلال هذه الفترة ترتيب أوراقه والوقوف على أرقام أرصدته وحساباته في البنوك العالمية، فضلاً عن سحبه لمبالغ ضخمة من خزينة الدولة خلال أحداث الثورة، ناهيك عن تجميع مدخراته في الداخل، ولملمة هداياه المتناثرة في كل أرجاء القصر التي حصل عليها من ملوك وزعماء العالم خلال فترة رئاسته التي امتدت لثلث قرن من الزمن.

ابن علي وبرغم فراره ولجوئه إلى المملكة العربية السعودية تاركاً خلفه ما خف وما ثقل وزنه مفضلاً سلامة روحه وبدنه على كل ثروات الأرض نجده مازال ملاحقاً ومطلوباً لوجه العدالة التونسية حتى هذه اللحظة. فيما نجد علي صالح هنا طليقاً رغم ما ألحقه بوطنه وشعبه من كوارث ومن آلام وأوجاع.

مفارقة عجيبة أن يطارد حاكم من قبل شعبه بعد أن توارى نهائياً عن أنظاره، وبعد أن ترك الحكم وبلاده تحتل المرتبة الأولى في التنمية على مستوى الوطن العربي، بينما تحتل المرتبة الثانية على مستوى القارة الأفريقية… مفارقة عجيبة أن يطارد حاكم من قبل شعبه، في الوقت الذي رحل فيه، ومتوسط دخل الفرد التونسي السنوي لا يقل عن خمسة آلاف دولار أمريكياً، بينما متوسط دخل الفرد المتوسط في اليمن لا يزيد عن مائتي دولار أمريكي، أي ما نسبته 4% من متوسط دخل المواطن التونسي.

كل ما ترتب على أحداث ومجريات الثورة هنا هو مغاير لكل النتائج التي تمخضت عنها كل ثورات العالم لا سيما تلك الأحداث المتعلقة بصراع شعوب الأرض مع ديكتاتورياتها وطغاتها العتاة.

هي سابقة تاريخية بامتياز تلك المتعلقة باليوم الذي تحول فيه الديكتاتور المطاح به شعبياً بثورة عارمة إلى شريك للمعارضة في الحكم وإلى رقم سياسي جديد يملك من اوراق اللعبة السياسية ما تمكنه من التأثير المباشر على مجريات الحكم وعلى مجريات الحياة، كما هو الحاصل في واقعنا السياسي الراهن.

هي سابقة تاريخية بامتياز تلك التي مكنت رأس النظام السابق هنا  من أن يمسك بكثير من خيوط اللعبة السياسية خلافاً للمصير الذي آل إليه ثلاثة من اعتى ديكتاتوريات الأنظمة العربية ممن هم أكثر من علي صالح دهاء وثقافة وحضوراً شعبياً وإقليمياً ودولياً.

هي سابقة تاريخية بامتياز تلك التي ظهر عندها المجتمع الدولي وهو بهذا الخوار، وبهذا الترهل، وبهذا الانحلال والانفلات اللا أخلاقي. هذا الخوار الذي سيظل لفترة يتطلب لحله كثيراً من الغوص في عمق العلاقة التي ربطت النظام السابق بأكثر من نظام إقليمي ودولي طالما لم يسبق وعلى مر التاريخ الحديث بالذات أن دُلل حاكم ديكتاتوري من قبل حكام العالم، ومن قبل منظمات دولية كما دُلل الرئيس السابق علي عبدالله صالح، على امتداد عام ونصف العام من عمر الثورة السلمية.

قضية الشعب اليمني مع حاكمه السابق هي القضية الوحيدة التي يتعامل معها مجلس الأمن الدولي بهذا الفتور، وبهذا التمييع الذي يصب في مضاعفة آلام وأوجاع هذا الشعب، الأمر الذي يضع كثيراً من المفكرين والمحللين السياسين أمام ظاهرة سياسية غريبة هي الأقرب للغز منها لقضية شعب وديكتاتور أرعن، هذا اللغز الذي سؤاله يقول: ما الذي قدمه صالح للقوى الإقليمية، والقوى الدولية طيلة فترة حكمه حتى تظهر هذه القوى بهذا الموقف المخزي والمتآمر واللا أخلاقي المتجسد في موقف مجلس الأمن المايع وغير المسبوق في تاريخ هذه المنظمة الدولية.

ما يمكنني الجزم فيه في ضوء هذه المواقف الإقليمية والدولية، وفي ضوء تقاعس المنظمات الحقوقية العالمية عن القيام بواجباتها ومهامها الإنسانية تجاه شعب يواجه مليون من أطفاله خطر الموت المحقق خلال هذا العام؛ جراء سوء التغذية، التي تسبب بها النظام السابق جراء انشغاله بنهب ثروات هذا البلد، وبتجفيف ينابيع خيراته، فيما حوالي خمسة ملايين مواطن ومواطنة هم في مرمى هذا الخطر جراء المجاعات المحدقة بهذا البلد، فضلاً عن 80% من السكان هم تحت خط الفقر، وضائقة البطالة المزمنة… في ضوء هذه المشاهد المخيفة والمرعبة، وما يقابلها من استهتار بقضية هذا الشعب، ومن تدليل زائد عن حده لرأس النظام السابق في هذا البلد، يمكنني الجزم بأن كل طغاة العالم، وأخص بالذكر منهم حسني مبارك، وزين العابدين بن علي، وسيف الإسلام القذافي، وعبدالله السنوسي، وغيرهم وغيرهم من طغاة العرب بالتحديد ممن ما زالوا على قيد الحياة جميعهم، يحسدون علي عبدالله صالح على ما هو فيه من تدليل ومن حظوة إقليمية ودولية دون إسقاطهم لللغز الذي يقف وراء هذا التمييز بينهم وعلي صالح رغم ما قدموه لأنظمة الخليج وللإدارات الأمريكية المتعاقبة، وللكيان الصهيوني من خدمات كان أبرزها إسقاط العراق برمته بين مخالب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتمرير كثير من المخططات الأنجلوصهيونية ضد مصالح الشعوب العربية وضد وجودها الآمن والمستقر.

ما الذي قدمه صالح لأمريكا وللجوار السعودي حتى يفضل على 25 مليون مواطن ومواطنة يمنية، سؤال سيظل الشغل الشاغل لكل شرفاء العالم حتى يتكشف هذا السر الغامض ولو بعد حين، لاسيما بعد أحداث أبين الدامية، وجريمة ميدان السبعين التي جرت يوم أمس الاثنين 21 مايو 2012م، والتي تعد من الجرائم البشعة بكل المقاييس.

زر الذهاب إلى الأعلى